في خضم هذا الوضع الصحي الحساس ارتأينا أن نرحل بكم من جو الكمامة ومكثفات الأوكسجين إلى جو القراءة ومكثفات الإبحار في عوالم القصة والتشويق، لعلنا نضيء على نوع أدبي ظل هامشيا رغم ما يبعثه في النفس من فضول واستكشاف وثقافة وامتاع...
في هذا الحوار سنعود بالكاتب الأديب القاص زين الدين بومرزوق إلى البدايات مع عالم القصة القصيرة، هذا الشغف الذي كفاه الميل والكتابة لأجناس أدبية أخرى، سيشوقنا بومرزوق في هذه السطور إلى بعض من أعماله، لعل وعسى يثير شغف القراءة في هذه الأوقات العصيبة، فلطالما كانت المطالعة ملاذا رائفا في مثل هكذا ظروف.......
حاورته زهور غربي
* أولا مبارك عليك شهادة البكالوريا للمرة الثانية ؟
أشكرك علي إتاحة لي هذه الصفحة لنبوح فيها بجميل الحديث حول تجربتي الأدبية المقترنة مع المسؤولية الإدارية لسنوات عديدة، وأشكرك على تهانيك لنيلنا شهادة البكالوريا بعد التجربة الأولى التي تعود لسنة 1982. أي بعد أربعون سنة تقريبا .
* هل أعدت اجتياز شهادة البكالوريا من باب الإحتفاء أو التحدي أو ماذا ؟
هذه المحاولة الثانية الموفقة مثل الأولى، جاءت بناء ليس من أجل تحد أو للإحتفاء وإنما لرغبة في العودة للجامعة، ومواصلة اكتساب المعارف، خاصة وأنا على أبواب التقاعد، وبالتالي لا أريد أن أعيش الإظطراب النفسي الذي يعيشه كل من أحيل علي التقاعد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لاكتساب معارف جديدة. أنا لا أحب الفراغ.
* يصعب اختصار مسيرة حافلة بالإبداع في بضع سطور، هلا قدمت لنا شخصك الكريم ؟
بومرزوق زين الدين من مدينة تتنفس شعرا وكل يوم تثمر شاعرا جيدا مثل ما ينجب نخلها التمر الأجود، هي بسكرة عروس الزيبان. بدايتي كانت مع مهرجانها الشعري الوطني محمد العيد آل خليفة، الذي احتضنته المدينة بداية الثمانينات، حيث كان لنا أول احتكاك بأسماء شعرية وطنية معروفة، إلا أنني كنت الإستثناء حينها، لأن النثر اختارني أو اخترته، هنا تذكرت أن المدينة كذلك إختارت الدكتور والناقد عبد الله ركيبي، فكان لنا التواصل معه ليأخذ بأيدينا إلى بر الأمان.
وهو ما كان، حيث نشرت أول نص قصصي بجريدة النصر سنة 1981، وكان عنوان القصة "معذرة يا أمي"، حيث نشرت واختيرت كقصة الأسبوع بالملحق الثقافي، لتتوالى بعدها الأعمال في مختلف الجرائد الوطنية حينها مثل الشعب، والمجاهد الأسبوعي، مجلة آمال ، أضواء.. لتتوسع التجربة بعد الإنفتاح السياسي والإعلامي بعد أحداث أكتوبر سنة 1988، لتشمل باقي الجرائد كالجزائر، اليوم، المساء، الخبر ..إلخ .
ومع بداية التسعينات بدأت رحلة النشر، أول تجربة كانت لي مع رابطة إبداع التي نشرت لي كتاب نقدي موسوم بـ "قراءات نقدية في القصة القصيرة الجزائرية المعاصرة"، حيث جمعت فيها كل التجارب في حينها لأسماء برزت في تلك الحقبة من الأسماء دون تجاهل الصوت النسوي الذي كان بارزا وحاضرا بقوة.
مباشرة كانت القصة في موعدها كعمل ثاني يطبع بإمكانياتي الخاصة بعنوان "ليلة أرق عزيزة" عن دار هومة، المجموعة الثانية "تشكيل في ذاكرة العين" عن الجاحظية، هذه المجموعة التي استقبلها عمي الطاهر وطار وقرأها الشاعر العربي الكبير ابن الشاطئ.
ثالث مجموعة صدرت عن اتحاد الكتاب الجزائريين بمناسبة السنة الثقافية الجزائرية بفرنسا، المجموعة بعنوان "الحجر المقدس" وهو عنوان لقصة من المجموعة التي نالت المرتبة الأولى للمسابقة الوطنية التي نظمتها وزارة الثقافة سنة 2000 حول الأدب الإفريقي، وكانت المناسبة حينها انعقاد دورة للقمة الإفريقية بالجزائر بعد العشرية السوداء.
وبعدها كانت المجموعة الموسومة بـ "معذرة يا بحر"، يمكن القول أنه من هذا العنوان وهذه المجموعة بدأت تجربة جديدة، حيث ارتبط العمل القصصي بالمكان، حيث أن العنوان "معذرة يا بحر" يحيلكم إلى مدينة الحب والسحر "بونة"، التي عملت فيها كرئيس للدائرة.
بعد هذه التجربة، يأتي العنوان الآخر من المجموعة "خمسون درجة تحت الظل"، وعنوان المجموعة يحيلكم إلى المدينة أو البيئة الجديدة التي عشت فيها سبع سنوات، وهي واحة قورارة بأدرار، هذه الواحة التي تظم تيميمون، تينركوك، شروين، وأوقروت. كانت لي مهدا طيبا للإبداع والغوص في جماليات الصحراء وعطاءاتها وسحرها، فكانت المجموعة خلاصة لتجربة حياة عشتها لمدة تجاوزت السبع سنوات، كانت كافية لمعرفة الصوت الساكن في عمق "الفقارة" وهمس الذكر المرسل مع غناء أهليل في دروب القصبات التي تحملك إلى دور الطين المعجون بمحبة الناس وعطر أكف النساء والأطفال والشيوخ الممزوجة بماء الروح من ماء "فقارة" أولاد سعيد، وذكر الصلوات المرفوعة من قبة جامع "ماسين" الذي يحتويك مع الرايات المرسلة من قصور قورارة، إحياء للسبوع ولمولد النبي المرسل رحمة للعالمين.
وقبل ذلك، وقبل هذا الكشف كانت الرحلة عبر أرجاء هذا الفضاء المفتوح، فكتبت بقلم الدواية يومياتي في قصور قورارة وبعدها مع الصورة لأن الكلمات في بعض المواقف تعجز عن التعبير فكان الكتاب المصور الذهبي "gourara amour et poésie" خاتمة الرحلة، لأنتقل بعدها إلى ولاية البيض مهد المقاومة ورجال الله والصالحين، أين كتبت أخيرا "أنهار جبل الثلج" المجموعة الأخيرة في فن القصة القصيرة، قبل أن أعيش تجربة ثانية في فن القصة القصيرة جدا، وهما المجموعة الأولى بعنوان "شبه لهم" والثانية "قلب مختل عقليا"... الشكر موصول للناقد البروفيسور السعيد بوطاجين الذي قرأ وقدّم المجموعتين للقراء والمكتىة الوطنية كتجربة فنية جديدة في فن القصة القصيرة جدا، التي أرى أنها وفّقت إلى حد كبير.
* ما هي المشارب التي ساهمت في صياغة عالمك القصصي ؟
المشارب التي ساهمت في هذا العطاء الأدبي كثيرة ومتنوعة، بداية التجربة كانت بقراءة كل الأعمال القصصية الجزائرية حينها والروائية دون استثناء، حيث كانت بداياتنا تجبرنا علي الإطلاع علي التجربة الجزائرية عبد الحميد بن هدوقة، الطاهر وطار، عبد الله ركيبي، زهور ونيسي، عمار بلحسن ...الخ، والأسماء العربية وكذلك الأدب الروسي، حيث لم نترك أي مدرسة أدبية إلا وأخذنا بأسرارها لنقوّم حرفنا ونقوّيه بتجارب الآخر المفيدة.
* أول أعمالك القصصية موسومة "ليلة أرق عزيزة" سنة 1989 حدثنا عن هذا العمل ؟
"ليلة أرق عزيزة" هي تجربتي الأولى في فن القصة التي جمعت فيها أعمالي الأولى المنشورة حينها بالجرائد الوطنية.. كانت ذات صبغة صوفية بموسيقاها القريبة من الشعر، لأنها كانت تلامس وجع المرأة في زمن أنكر فيها ما قدّمته سابقا من أجل الوطن، وقد طعنها ثانية بعد أن غيّبها بعد الانفتاح السياسي سنة 88، حيث كانت المرأة ضحية طيبتها وتضحياتها الجسام وتصديها للتجاهل والاستغلال السياسي والديني.. كانت قصصها مؤلمة حزينة لأنها عرّت الواقع المر الذي عاشته المرأة حينها في وقت كانت تقدم أجمل صور الإبداع والحضور الجميل في كل المجالات، إلا أن ذلك لم يشفع لها.
* في باكورتك العديد من القصص أيها الأقرب إلى عوالمك ؟
صعبة الإجابة لأني قد أشوش علي اختيار القراء والمتابعين، إلا أن القصة التي يمكن أن تكون أقرب إلى قلبي القصة المعنونة بـ "باية" أو "الحب في زمن الموت" ومن المجاميع أخيرا "أنهار جبل الثلج".
* ماذا عن "خمسون تحت الظل" والتي تقدم فيها أدبا قصصيا مهربا من عوالم الصحراء ؟
"خمسون درجة تحت الظل" لأنها صورت بحب وحزن واقع المرأة الصحراوية التعيس حينها وقد اعتبرها بعض النقاد حينها والمتابعين أنها من بين المجاميع القصصية التي تناولت أدب الصحراء.
* أبطال قصصك هل هم من الخيال أو الواقع أو مزيج بين ذلك ؟
أبطال قصصي هم من واقع البيئة التي كتبت فيها، حيث تجدين أسماء أبطال القصة مثل مانت، والتالية، وأماكن محلية خالصة وما تحمله من موروث ثقافي ديني.
* كيف ترى حركة القصة القصيرة في الجزائر ؟
بالنسبة لواقع الحركة في فن القصة القصيرة إنه بائس لتخلّي الكثير من الأسماء التي كانت بدايتها في فن القصة، وتحولوا إلى الرواية، وأنا هنا لا ألوم أصحابها لأنه ليس من العدل أن نفرض على أي كاتب اختيار نمط لكتابة أوجاعه، فالحرية أساس أي إبداع.
* ثمة قاصون تحولوا إلى كتابة الرواية، هل راودتك الفكرة ؟
بالنسبة لي شخصيا وما أريد أن أقوله هو رأي متابعين ونقاد قرؤوا أعمالي وتابعوا تطور الكتابة عندي وأمام عدد سنوات تجربتي، وكذلك المجاميع المنشورة، كان من الطبيعي التحول السلس إلى كتابة فن الرواية، لطابع الأسلوب الذي كتبت به، إلا أنني لم أفعل والتزمت كالعاشق الذي لا يعرف الخيانة، فاكتفيت بحبيبتي القصة القصيرة كرفيق دربي، بل أكثر من ذلك عدت وكتبت القصة القصيرة جدا كعربون وفاء لهذا الفن الذي وجدت نفسي فيه بكل أريحية، وكأني وبطريقة غير مباشرة أرد علي الذين يبررون تحولهم إلى الرواية أن القصة أو الشعر لم يعد يمنحهما الفضاء الكافي للتعبير عن أحاسيسهم وانشغالتهم.
* كيف تجد الساحة الأدبية في الجزائر ؟
الساحة الأدبية في الجزائر تعيش واقعا مؤلما، أنا متشائم جدا لحال الأدب الجزائري، حقيقة لا تغرنكم العدد الهائل من الإصدارات وكذلك دور النشر التي أصبحت في رأيي دكاكين للربح، وضمان خبز العيش، لأن الكثير منهم لا تهمهم الأسماء ولا الأعمال وإنما ما يقدمه الكاتب من مقابل لطبع عدد قليل من النسخ ليتباهى بها صاحبها في معرض الكتاب أو صفحات "السوشل ميديا" مقترنة باسم الفخامة الأديب والروائي.
قلت متشائم كذلك، لغياب النقد للكم الهائل من النصوص التي نقرأها بوميا وتنشر دون متابعة، بالإضافة إلى غياب الترجمة من وإلى اللغة العربية.. كل هذه هي عوامل منفّرة ومسببة لزوال الأدب الجزائري، بالإضافة إلى غياب التجديد في الكتابة والنص الجزائري وغياب الملتقيات التي كانت تعرّي وتفضح وترفع من تشاء وتذل من تشاء، وغياب الشعور بالمسؤولية اتجاه ما نكتب للمجتمع والمكتبة.
* كيف انتصرت للكاتب الأديب القاص على حساب الإداري المسؤول ؟
علاقة الكاتب بالإداري المسؤول، هي علاقة حميمية مرتبطة منذ البدايات الأولى للكتابة، الوظيفة والمسؤولية هي التي منحتني الكثير من الحكايا وبدون التواصل مع الإنسان الكادح الذي يعاني في صمت وفي أماكن بعيده.. ما كنت لأكتب لولا هذه المسؤولية التي حملتني من ولاية إلى أخرى، إلا أن ذلك كان علي حساب راحتي والاهتمام بأشياء خاصة، وكما قيل لي أنني ساهمت بكتاباتي في تهذيب الإدارة وتحسين الصورة المشوّهة للمسؤول، وربط أواصر المحبة بين المسؤول والساكنة، من خلال التقرب إليها والكتابة عنها ورسم معاناتها والبحث عن الحلول المناسبة، وفي أضعف الحالات نقل انشغالاتها والصدق في التعامل معها.. لا أخفيكم أني كسبت محبة الناس في كل مكان عملت فيه وهذا شرف أحتفي به أين ما كنت.
* على ماذا تعكف في هذا الظرف الصحي الذي يحيل إلى السرد وعوالم الكتابة ؟
ما يشغلني الآن صراحة مع هذا الوباء، هو أن نحافظ علي حياتنا قبل أي شيء، فمن دون سلامة النفس لا يمكن الحديث عن مشاريع أدبية، فالخوف السائد من الموت والرعب الذي نعيشه يوميا والحزن كذلك، لم يمنحنا القوة للكتابة والإبداع.. ربما مستقبلا، بعد أن يرفع عنا هذا الوباء قد تكون الفترة التي عشناها مصدر إلهام لأعمال أخرى ترتكز علي هامش الحزن والموت اليومي والجنائز والأمراض، وقد تكون ملاحم لأعمال خارقة، فالكتابة في مثل هكذا ظروف كمن يكتب وفوهة مسدس مصوبة علي رأسه.
* كلمة أخيرة..
في الأخير أحييك وأشكر الصفحة علي إتاحة لنا هذه السانحة الكريمة لنعبر ونوصل ما يختلج في صدورنا للقراء. أتمنى أني وفقت في ذلك. شكرا لكم مرة أخرى على سعة صدركم وصبركم.
التعليقات
(لا موضوع)
إضافة تعليق جديد