تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
الدكتورة زهرة سعدلاوي كحولي تقدم دراسة نقدية لرواية "وطن بيع بقارورة نبيذ" للكاتب والصحفي صالح عزوز

عنوان الدّراسة، الشّخصيّات في رواية "وطن بِيع بِقارُورَة نَبِيذ" للكاتب والصّحفي الجزائري صالح عزّوز من ظاهر البناء إلى بحث في العلاقات، والدّلالات. 

إعداد الدّكتورة، زهرة سعدلاوي كحولي 

التمهيد 

       "وطن بيع بقارورة نبيذ" للكاتب والصُّحُفي الجزائري صالح عزوز رواية شخصيّات بامتياز، والشّخصيّة في علم السَّرد تعْني "كلّ مُشارِكٍ في أحْداث الحِكايَة، سَلبًا أو إيجَابًا، أمّا من لا يشارك في الحَدث فلا ينتمي إلى الشَّخصيّات، بل يكون جزْءا من الوصف، وهي عنصر مَصْنوع، ومُخترع، ككلّ عناصر الحِكاية، تتكوّن من مجموع الكلام الذي يَصِفُها، ويُصوّر أفعَالَها، ويَنقُل أفكارَها وأقوالَها"¹. والشَّخصيّة وإن صيغت من عالم الخيَال فهي في علاقة فاعلة بالوَاقع وما يُنتِجُه من مَوَادَّ  تدْعَم الشَّخْصِيّة وتُحِيطُها بِسمَات خاصّة وتفاعُلات مُتميّزَة.  

      حَقق العنوان "وطن بيع بقارورة نبيذ"² نجاحًا في التركيب المَجازي، فهو ينفتح على مَعانِيَ شعريّة ويُثير في القارئ حُبّ الاطِّلاع والإصرار على مَعرفة كَيْفيّة الطرِيقَة التي بيع بها الوطنُ ، كما يطرح العنوانُ أسئلةً مُحيّرة، مَنِ البَائِع، ومَنِ الشَّارِي، ومَا قيمَة الثَّمن مُقارنةً بقيمَة الوطن؟ وهنا يَجِدُ المُتلقِّي نفسَه أمام جمَاعة من الفَاسِدين المُغَالين في العبَث بمَصْلحة الوَطن، غير عَابئين بما يَنْجرّ عن أفعالهم من نهايات مُدمِّرة. 

      نبدأ بحثنا بالرّأس المُحدِّد لِهويّة النصّ، ونعني به العتبة التي جاءت في إطار توجَدُ داخله قارورةُ نبيذٍ، كُتبَ تحتها عنوانُ الرّوَاية، وغَلبَ على غلاف الكتاب اللَّوْنُ البُنِّيُّ ما بين الفاتح والغامق، أضفْ إلى ذلك اللّوْنَ الرَّمَادِيَّ الذي رُسمت  به القارورة، و يتخلّله لون وردي فاتحٌ، وفي إحدى مشاهد السّرد من بنية النصّ الداخليّة يظهر اللّون الأسود القاتم وقد غطّي الفضاء، فالمَكان أسودُ والسَّيَّارات سَوداءُ، إنَّه التَّخفّي، ألسْنا في مكان جَريمَة، وفي أجواء تسيطر عليها مُمارسة المُوبِقات. إنّ الظُّلمَة وحدَها قادِرَة على التّخفيف من حدّة فظاعَة ما يَجْري داخل تلك الجُدرَان، وعلى تلك الشَّخصيّات تتستّرُ بالفضاء الدّاخلي لتمَارِس عبثا واستهتارا لا حدّ لهما. 

     لم يجزّئ الكاتب مشاهد الرّواية إلى عناوينَ فرعيّةٍ كما هو مَعلومٌ في التقنيات السَّرديّة، بل وضع جملةً من الأسطر تفصل بين مشهد وآخر، جاءت مُكثّفة مُتلاصِقةً ومائلة قليلا إلى اليمين،  ويفيدُ السّطر في مَعاجِم اللغة الكتابة وتَسْطيرُ العبارة يعني تألِيفَها، وهي حركة تجلِبُ الانتباه وتُجسّد شِعريّة الرّوايــــــــة و رَمزيّتها، فما هي الدّوافع التي جعلت الكاتب، أو النّاشر يَضع بدَل عنوان فرعيٍّ مثل هذا التقسيم؟ ثمّ إنّ مثل هذا التقسيم كان يُمْكِن أن يكون بأرقامَ، أو نُجَيمَاتٍ، فمن خلال قراءتنا للسّطر المَائل تتجــلّى لنا معــــاني عدم الاستقامــــة، و التأرْجُح والضَّياع، والغياب عن الوَعْي. ذلك أنّ أبطال الرّواية النَّماذج مُدْمنُون على مُعَاقرَة النَّبيذ مِمَّا يَجرّهم إلى الغيَاب عن الوَعْي طيلة سَهَرَاتِهم اللَّيليّة، ثمّ ينامون مُتأخِّرين ولا يَنهَضُون إلاّ بعد مُنتصف النَّهَار. 

                                                                                                            ---------------------------------------

1 انظرمعجم مصطلحات نقد الرواية، عربي إنجليزي، فرنسي، مكتبة لبنان ناشرون، دار النهار للنشر، ط1. 2000، ص 114.
2 صالح عزوز، وطن بيع بقارورة نبيذ، تسعون صفحة، نشرت سنة 2019 عن دار النشر "أجنحة"

 

      كما يطرح النصُّ مدى قيمة موضوع البيعَة التي  لعبت فيها الشَّخصيّة بصيغة المُفرد، أو الجمع دورا مُميَّزا؟  إذ كيف تفاعلت في علاقتها بعضها ببعض؟ وهل قادتها هذه العلاقاتُ إلى نهَاية مُعيّنة طبعت هذه الرّواية ومَيّزتْها عن غيرها من روايات عصرها، والأهمُّ من ذلك أنّها وَسِمَتْهَا بدِلاَلاَتٍ تعمّد المُؤلف الإيحَاء إليها؟ أليس هو القائل في حقّ روايته، "قبل أن أبدأ في كتابة الرّواية كنت مُتردِّدا كثيرا في كيفيّة التّعَامُل مع الواقع، هل أختَارُ الماضي منه، أو (كذا) الحاضرَ الذي بين يديَّ اليوم، لكنّني حينما نظرت إلى وقائع السّاعة، اكتشفت أنّ روايتي سوف ترى النُّور، قبل أن يصل هذا التغيرُ الذي حدث، إلى نهايته، لأنّ ملامِحَه ظاهرةٌ للعيان، وتوحِي بأنّه سوف يُعمّر طويلا... لذا كانت روايتي بمثابة إسقاطٍ  لواقِعٍ مُعَاشٍ هنا وهناك" (المجلّة الثقافيّة الجزائريّة، 22 ديسمبر 2019)، ويَقصِد بذلك ما يجري في الوطن العربي ولن تكون الشخصيّات إلاّ نماذج لهذا المشهد الذي قصد الكاتب أن يشَحَن به روايتَه التي تبدو مَحْدودةَ العدد، لَكِنّها قابلة للتّنامِي، وتعدُّد المعاني، والدِّلالات، كما أنّ الرّواية جاءت خاليةً من التّصدير والإهداء، حيث يدخل الكاتب مُباشرة إلى أحداث الرّواية بفقرتين اثنتين مُشوّقتين: فلم يذكُرْ خِلالَهُمَا اسم البطل، ولعلّ ذلك من باب شدّ انتباه القارئ، الذي يباغَتُ منذ العتبة بعنوان بدا غامضا ولافتا للانتباه، فرأْسُ الجُمْلة "وطن بيع بقارورة نبيذ " اسم علم نكرة يَجوز تطبيقُه على أيّ وطن، ولكنّ الخبر أضاف مَزيدا من التعقيد والاستغراب والتَّساؤُل، إذ كيف يُمكن أن يتمَّ بيعُ وطن بصيغة المجهول، وتتراكم التعْقيدات عندما يُختم العنوان بتحْديد ثمن الوطن مُقابل "قارورة نبيذ.."، إذن تضع العتبة  القارئ أمام إشكاليّة مُحَيِّرة، والعنوان في نفس الوقت يَحمل مَعانيَ دلاليّةً  موحيَةً، ففَهْمُ النَّصِّ يتطلب من القارئ "أن يتطرّق إلى العنوان أوّلا والذي يعتبرُه النقّادُ بمثابة عتبة النّصّ الأولى التي تواجه المُتلقّي وتستوقفه باعتبارها مِفتاحا أساسيّا من مَفاتيح التَّأوِيل، إذ إنَّه المحور الذي يُحَدّد هَويّة النصّ وتدور حوله الدّلالات وتتعلّق به وهو بمثابة الرَّأسِ من الجسد".¹ 

 ولَعلّ تحليل شخصيّات الرّواية سوف يُمكّننا من رفع الالتباس وفهْم عُمْق النصّ والوقوف عند دقائقه. سوف نتطرّق إلى دراسة الرّواية من خلال ثلاثة عناصر مُستأنسين  بالمًنهج البنيوي مراوَحة مع الأبعاد السّيميائيَّة، وبعدها نأتي إلى الاستنتاجات والخاتمة، وذلك كما يلي: 

1- تصنيف شخصيّات الرّواية في ضوء جدليّة الظّاهر والباطن 

2-  بحث في علاقات الشّخصيّات ما بين الإفراط في تعاطي الشَّهوات، ودِلالات المصير. 

3- الشّخصيّات النَّماذج ومَفهُوم الوَطن. 

4- الاستنتاجات والخاتمة. 

                                                                                                             ---------------------------------------

¹ سامح الرواشدة، منازل الحكاية، دراسة في الرواية العربية، دار الشروق للنشر والتوزيع ط1-2006، عمّان الأردن، ص134.

 

     "وطن بيع بقارورة نبيذ" عتبة لا تخْلو من مَعانٍ، وإيحاءاتٍ، تعمَّد الكَاتبُ إيصالَها إلى القارئ مُباشرة، أو بطريقة غير مُباشرة. و ما يجْلب الانتباه في هذه الرّواية هو طابع البساطة المُغرِيَة، والمُلغِزَة في نفس الوقت، وذلك فيما نزْعُم الوقوف عنده في هذه الدّراسة اعتمادا على شّخصيّات فاعلة وأخرى مفعولا بها، نفتتحها بالعنصر التالي: 

  1. تصنيف شخصيّات الرّواية النّماذج في ضوء جدليّة الظّاهر والباطن¹ 

  يعني هذا التصنيفُ النّظرَ في شخصيّات الرّواية النّماذج ظاهرها وباطنها، أقوالها وأفعالها، وكلّ ما أتته من حركات ساهمت من قريب أو بعيد في دفع أحداث الرّواية وتطويرها، خصوصا وأنّها في هذه الرّواية تُمثّل وحْدة مُتكاملة تسيّر الواقع وتحكمه، بما أتت من تأثير فيه مُباشر، أو غير مُباشر. تبدو شخصيّات الرّواية مَحكُومة إلى مسائل مُعقّدة وغامضة، تنطلق من فضاء "القصر"، أو"الحصن" وخباياهما وتعود إليهما. 

  وتشدّ القارئَ في هذه الرّواية البنيةُ الثنائية للشخصيّات فهي تتراوح بين ظاهر لافت وباطن مُلغز، أو ما يسمّى في الدّراسات السّيمْيَائيّة بين السّطحِ والعمْق، وهي خصائصُ سوف نُحاوِل تجلّيها من خلال شخصيّات "وطن بيع بقارورة نبيذ". 

  وتبدو لنا شخصيّات الرّواية بسيطة تتحرّك ببطء داخل فضاء يُمْكن أن نَنْعته بالمُغلَق، ولكنَّ الكاتب بَنَى من حولها عالما مُبْهما يَكتشفه القارِئ خُطوة خُطوَة كيْ يَتمكّن من تفكيك شَفرَات ما اسْتَعْصى واسْتغلق من مَعانِي النصّ.          

  فبديهي أن يكون اسمُ الشخصيّة² أوّل العلاماتِ التي تجلب المُتلقّي، وتشدّ انتباهَه، لذلك "يصرّ مُعظم المُحلّلين البنيويين للخِطاب الرّوائي على أهميّة أن تَحمِل الشَّخصيّة اسما يُميّزها ويُعطيها بُعدا دلاليّا خاصّا، ويُعلّلون ذلك بأنّ الشَّخصيّات لا بدّ أن يكون لها اسم، وأن يكون ميزتَها الأولى، لأنّه يُعيّن الشّخصيّة ويجعلها معروفة وفرديّة"³، ولكنّ عدد الشّخصيّات التي أسندت إليها أسماء جاءت مُحدّدة ومَعرُوفة في رواية "وطن بيع بقارورة نبيذ" قليلة مثل "سليم"- "ماهر"، والصحفيّة "آمال"، وهي  من الأسماء التي سوف نُحاول الإحاطة بها، ثم النّظر في الدّور المَعهُود لها، وفي مرحلة أخيرة نبحث في العلاقات التي تربط بين الشخْصيّات جميعا، ولكنَّ معظم الشّخصيّات سمّاها الكاتب بألقابها، أو بكنية مَعروفة في وسطها. 

  نقرأ لأسماء الأعلام في المُدوّنة مَعَانِيَ قارّة نعثر عليها في مُعجم أسماء العرب، فــ"سليم" مثلا  [وطن بيع،]،"اسم مشتقّ من الجذر[س. ل. م] وهو صفة على وزن فعيل: يعني الخالص، والنّاصح، يقدّمه المُؤلّف بأنّه "شابّ في الأربعينات، تلقّى التدريب العسكري خارج الوطن، يحمل دائما قارورة "فودكا" في جيبه..." (وطن بيع بقارورة نبيذ، ص7) فهل عَنَى به المُؤلِّف  نظافة اليد والخلق، والبراءة ممَّا قد ينسب إليه من اقتراف بعض المُخالفات؟ 

  وما يُمكن قوله أنّ الاسم يجذّر هويّة الشّخص، ويلعب دورا كبيرا في إثبات ذاته، والتّعريف بها، ولعلّه، ولهذا السّبب اختار المُؤلّفُ أن يُنادي كثيرا من شخصيات الرّواية ببعض هذه الصّفات والألقاب، وكأنَّنا به قد تعمّد اختيارَها وجعلَها صفاتٍ قارّةً لشخصيّاته مثل (الأصلع- المُحقق- مدير المخابرات...)، فهي دلالات تُحِيل إمّا على وَظيفتها، أو على ما تتميّز به من ألقابَ بدت غالبةً على أسماء الأعلام. فـ"الأصلع" مثلا صفة تعني لغويّا فاقد الشعر، أو الذي تساقط كامل شعر رأسه من الأمام، والصّلع انحسار الشّعر عن مُقدّم الرّأس، أو وسطها. يبدو أنّ "الأصلع" ينام على أسرار خطيرة.. ويلعب دورا رئيسا في نشر مثل تلك الأخبار الفاسدة (وطن بيع..ص44)، والتي يريدون من خِلالِ نشْرِها إرْسال رسائل مُباشِرة إلى كلّ مَن تُسَوِّل له نفسُه، التقرّب أكثر من هذه الشلّة، التي ترى بأنّ العمل غير الأخلاقي والفساد، يجب ألاّ يُنشر وتعْرِفه العامّة...(وطن بيع..ص.ن) يقول عنه الكاتب بأنّه خبير في تتبّع كلّ أثر للجريمة المُنظّمة...فقد إحدى عينيه في اشتباك طويل مع أحد رجال المافيا، يقال إنّه حين تمكّن منه قطّعه إربا إربا ورماه إلى كلبه..." (عزّوز صالح، وطن بيع...ص.7) ظاهر الشّخصيّة يُنبئ أنَّه يحمل بين جنبيه غلظة وحٍقدا وقسْوة قد لا ينجو منها أحد يُقرّر مُصَادَمَتُه. 

                                                                                                              ---------------------------------------

¹ زهرة سعدلاوي كحولي، أساطير الصحراء ونداء الحرية في الكتابة الروائية عند إبراهيم الكوني، طبعة النشر الجامعي 2012، ص 275 وما بعدها.
² Dictionnaire des sciences du langage op.cit. p p.286-287-288-289-291.
³ Philippe Hamon, Introduction à l'analyse du descriptif, op.cit. p.162.

 

  كما أنّ هناك أسماء لشخصيّات باذخة يصعب على المُحقّق مثلا أو المُتعَاونين معه أن يُوجّهوا لها تهمَة، بل التُّهْمَة وُجِّهَت للبسَطاء منهم، مثل الخادم (وطن بيع..ص.43)،"خرج "مدير المخابرات" من عند "القائد الجديد"، وهو يحمل ملفّ "الخادم"، وهو المُتّهم الرّئيسي، إلى حدّ السّاعة، وكان يُحَدّث نفسه بأنّ القضيّة سوف تُغلَقُ بعد يومين آخرين، لا أكثر، وكأنّه أصرّ على تقديم هذا "الخادم" ككبش فداء، سواء أقرّ بفعلته، أمْ لم يُقرّ،  وفي الحقيقة هو مُجرّد خادم يسترزق من وظيفته في "القصر". وهو ما كان... دخل عليه (المدير) في مكتبه، وزفُّ إليه خبر كون "الخادم" اعترف بكلّ التُّهم، وأنّه مُتورّط في كلّ ما حدث داخل القصر...(وطن بيع بقارورة نبيذ، ص. 43). أدخل هذا الفرحة على "القائد الجديد" في "القصر"، ورأى ذلك بداية انتصار لفَكّ لغز القضيّة..."وزفّ الخبر هو كذلك على الكبار، كما يسمّيهم، وختم قوله مع من كان يخاطبه بالهاتف "نعم سيّدي، يشرّفنا حضوركم.سوف نكون في انتظاركم."(وطن بيع...ص. 43) 

  أمّا "ماهر"، فهو اسم علم من فعل "مهر" ويعني ذلك حَذق وتميّزَ في نشر كلّ ما هو مُشين ؟ وقد تفيد هذه الصفات معنى النَّفْع والإيجاب؟....هذا في ظاهر الأشياء، أمّا في باطنها فهناك نظر وتدقيق، وقراءات تتجاوز الظّاهر وتمعن في الباطن ، لأنّ "ماهر" لم يكن في الحقيقة  غير ذلك الانتهازِي، والوُصولي، إلى جانب بعض الشّخصيّات الأخرى كما أشارت إليها الرّواية. 

  ولن يكون هذا التَّمَشّي سوى تقنية في الكتابة الرّوائية تسْمحُ للشّخصيّة أن يكون لها أكثر من لقب، أو بما اشتهرت به تلك الألقاب التي اتّخذ من أصحابها نماذج لشخصيّات لعبت دورا لافتا في الرّواية، فالكاتب يَتَجاوز مُناداة شخصيّاته بأسماءَ عَلَم ليُسْندَ إليها ألقابا في الشّغل من ذلك  المُركّب الإضافي، والنّعتي "مدير المخابرات، القائد الجديد...(ص,43-)، "الزّعيم القديم"-"الزعيم الجديد"، "رئيس التحرير". 

  أمّا الحديث عن الفساد في مثل هذه الرّواية فينبعث من كُلّ زاوية، فهو مُتَرَاكِم، ومُتعدّد، فساد في القول، وفساد الفعل، وفساد في الحركة، وذلك بتعاطي الجِنس بطريقة مُشْمَئزّة، مُقْرفَة، ثم إنّ جريمة القتل الفظيعة مُمثّلة في الإعدام بالجملة بدت إغراقا في النَّذالة وغياب الأمْن والاطمئنان. 

  "الخادم"، اسم فاعل من فعل خدم، قدّم مساعدة لغيره في العمل،خدم نفسه قام بحاجته، ويكنّى بالخادم:سيفو، (ص.1) متّهم  بالتقاط صور "الشلّة" في إحدى ليالي مُجونها أنموذج من أبناء الشّعب الذي يلهث للحصول على خبزه اليومي، وما يظن المتلقي أنّه يفكّر في القيام بعمل مُماثل إلا إذا كان وراءه شخصيّة تسعى إلى الانتفاع من نشر المشهد إلى العامّة وفضح المشاركين فيه.   

  كما تنفتح القائمة على "المُحقِّق"، وهو اسم فاعل  حقَّق مع فلان، أخذ أقواله في قضيّة ما، ومنها جاءت كلمة قاضي التَّحْقيق

  ويعني مدير التحرّيات، التَّحقيق في ظروف الجريمة، الاحتراز من الإعلام خوفا من نشر الحدث الفظيع، إشارة إلى عدد من الشّخصيّات عددهم أحد عشر شخصا ولكلّ واحد منهم سائقه، لذلك قلنا بأنّ عدد الشخصيّات يتوالد ويتزايد. 

   يحضر ضمن هذا العدد اللافت من الشّخصيّات العنصر النِّسائي، وما يبدو مُخيّما على مُحيط الرّواية الفضائي هو العلاقات الغامضة والمَشبوهة والتي تبعث على انتشار رائحة الفساد، وغياب الانسجام، تمكّن الفسادُ من أضْلع الجماعة إلى حدّ النُّخاع(ص44 ). أصبح (الكلّ يشُكّ في الكلّ...) (ص.3)، ولا بد من العمل على نشر الفضائح التي تمَسّ الكبَار، مِمَّا دفع ببعض الشخصيات الفاسدة من التعاون مع الصُّحف لنشر قضايا فساد أخلاقي، 

  وقوع "ماهر" في شباك صحفيّة تبدو أنّها كانت تشتغل معه في جريدة قديمة وانتقلت إلى أخرى جديدة، وإنّها تدعوه إلى العشاء هذه الليلة بمُناسبة انتقالِهَا إلى جريدة أخرى معروفة بامتيازات كثيرة، وسوف تعمل في القسم السِّياسي. 

  أبدى اشتياقا إلى تناول العشاء في مطعم شيك، ونعت عالم السّياسة بالقذارة، وبأنّه عالم القردة.. 

  وشجّعها على خوض التّجربة في ذلك العالم الذي يَمتهن في الجنس بولع كبير، ووعدها بأنّها سوف تأتي بالكثير من السَّبق الصّحفي، (ص.46)  

  واتبع الصّحفي المُبتدئ في الكتابة السّرديّة والمُتضَلّع في مَعْرفَة  شَخصيّاته يقلّبهم كما يشاء ومتى شاء فتتضخّمُ الأحداث، ثمّ يتفنّن الكاتب في رفع السِّتار عن المَخفيّ، مُسْتعِينا في ذلك بالظلمة، لقد غيّب الكاتب في مثل هذه الأحداث عنصر الإنارة حتّى لا تتّضِح الجزئيّات التي تسئ للقارئ، فهو إن علمها صُدِمَ("وراء الأكمة ما وراءها.."). 

  يسُود الفضاء مسحة من السّواد والصّمت، فالسّوَادُ  لون، والصمت غياب الصّوت، فهما حاسّتان تُمهّدُ الأولى للثانية ولعلّهما تتكاملان في الآخر، وقد لا يَسْتقيم الأمر إن نحن قسمنا شخصيّات هذه الرّواية إلى شَخصيّات رئيسيّة، وأخرى ثانوية، وأخرى ضعيفة، أو مُسطّحة، بل  إنّ ما يسود فضاء الأحداث هي شخصيّات نَمَاذج.  فــ"الأصلع" مثلا في هذه الرّواية نموذج الرّجل القويّ الفاسد والمُسيطر على المكان، وعلى من يتحرّك فيه. هذا من حيث المظهرُ، أما من حيث الأدوار التي يؤدّيها "الأصلع" فهي أدوار يُمكن نعتُها بالخطيرة، والمُهَدّدة لاستقرار الوطن، والمُسيئة لسُمْعَتِه بين الدّول. 

  يشتغل "الأصلع" بالقصر وهو مسْؤول عمّن يشتغلون فيه، ولن يكون اسمه سوى صفة تعني العراء، افتضاح الأمر، السلوك المُشين، فلا أخلاق لهذا الرّجل ولا مبادئ، ولا يبدو من سلوكه أنّه يُحبّ وطنه ويغار عليه. 

  وفي ذلك ملاءمة بين اسم العلم، دلالة مُعجميّة، ومَدلول الأحداث، كما تؤكّد عليه بعض الأحداث التي أتاها "الأصلع" من أعمال خَسيسَة ظاهرة وباطنة مثل حبّ النّفس والنّميمَة وزرع الفتنة والغشِّ، فالمرجعيّة الأخْلاقيّة من خلال "وطن بيع بقارورة نبيذ" تبدو ملوَّثَة، ومُزدرية عند هذه الشّخصيّات مِمَّن قدّمنا كنماذج.  

  خصّ الكاتب والصّحفيّ شخصيّاته بتقديم لافت، فهي من طبقة غنيّة، مَيسُورة الحال، والدّليل على ذلك أنّها تجتمع في "قصر"، وهي مُكلّفة بمَسؤوليًّات هامّة في البلاد، مسئولة عن حرمة الوطن، وصيانته، ولم تكتف تلك الشَّخصيّات بــ"قصر"، بل هناك "قصور"، وشراب من النّبيذ الرّفيع، ثم هي تعيش وضعًا اجتماعيا لا علاقة له بالعائلة، قدّم الكاتب الفضاء بطريقة فخمَة بهدف تمضيَة الوقت بين أحضان النّسَاء، فتيات (تتراوح أعمَارهنّ ما بين الاثنَيْ عشر، والثامنة عشر). 

  أما صفة "زعيم" فمشتقة من الجذر [ز-ع-م] وتعني القيادة، ولكنّ الزَّعيم في حقيقة الأمر يجب أن يَحمِل صفات أخرى إيجابيّة جدًّا، مُفيدة جدًّا تعود بالمَنفعة على الوطن، فهل يَختلف "زعيم" هذه الرّواية في جملة صفاته عن زعماء الأمس"؟ ما قام به "الزّعيم الجديد" من أعمال كانت تشبه تمامًا أعمالَ سابقيه كتغيير أثاث المكتب، والحرص على الاحتفاظ على الملفّات والتّسجيلات، ثمَّ الإتيان بتِقَنيين من أجْل البحث عن أجهزة "تنصّت"، أو"كاميرات" قد تكون موجودة في المكتب القديم. وما بدا له من بعض حركات التَّلَف تدلُّ على عمالةِ من سبقه (تأكدت نظرية العميل، الذي كان داخل "القصر"، والذي كان يُساعد "الأصلعَ" للتجسّس على "الزّعيم"...(ص.48) وأيْقنَ أنّ "مدير الاستخبارات" فعلا وَجَد المُجرم الحَقيقيّ، وليس مُجرّد تلفيق من أجل غلق المَلفِّ نهائيًّا لإرضائه كما كان يعتقد. 

  الجديد القديم الذي على "الزّعيم" فعله هو "القيام بدورة كاملة في القصر، من أجل الوقوف على كلّ صغيرة وكبيرة...("وطن بيع..ص.48) مثل تفقُّد الخَدَم والجُند، وحذّرهم بطريقة إيحَائية مُسالِمَة، ولكنَّها تحمل الحقْد والكرْه. 

  ما يقوم به "الزَّعيم الجَديد" نعته الكاتب بــ"الضّجّة" التي تبعث على الهدوء، ولكنّه الهدوء الذي يسبق العاصفة. 

  يصوّر لنا الكاتب في هذه الرّواية أحداثا غير عادية لطبقة مَخصُوصة غارقة في الفساد وإتيان المُنكرات... 

  جاءت علاقة الشخصيات بعضها ببعض مُهتزّة، وهشّة، إذ يبدو "الزّعيم " "مُتّزنا في قراراته، مُلتزما بِأقْواله، وأكثر من ذلك مُنتميًا إلى حزب، يدعو إلى إجلاء المُسْتعمر عن الوطن، وإلى حرّية الشّعب، وضمان كرامته، كما يبدو مُستعدّا استعدادا كاملا إلى التّضحية في سبيل عزّة الوطن، ونصرته"، ولكنّ حقيقة الشَّخص تقول غير ذلك مِمَّا رأينا واستنتجنا، إذ تبدو العلاقات بين الشّخصيّات علاقات صادمة، فالشّخصيّة في الرّواية إمّا أن تكون فاعلة،  أو موضوع فعل، وتُردّ العلاقاتُ بينها إلى الرِّغبة والتَّواصل والمُشاركة. وهي عناصر تجمع ظاهرا لافتا، وباطنا صادما. 

  تتَّسِم الشخصيّاتُ بقلة عددها، ولكن وفي نفس الوقت بتَوالُدِها، حضر عددٌ من الشّخصيّات لا حَدَّ له  قياسا على ما يَجري في بعض المراسم التّابع إلى مَجال الإعْلام، أو السياسة..."حضر الكثير من القوّاد من داخل الحِصْن وخارجه، والوجوه المعروفة، وكذا بعض الفنانين والممثلين والمشاهير من داخل الحصن وخارجه..في حفل كبير، وزّعت فيه الأشربة من كلّ نوع، وفتحت أبواب الغرف على مصراعيها، من أجل اللّهو والسّمر إلى طلوع الفجر..ليلة كانت هديّة من "الزّعيم الجديد"، وكلّ من ساعده في الوصول إلى هذا النّصر، الذي حقّقه فقط جلوسه على كرسِيّ القائد بضعة أيّام، واعترافا منهم على الخدمة المبجّلة تجاههم، منذ أن كان جنديًّا عاديا، واليوم يصل إلى كرسي "الزعيم" بفضل إخلاصه واجتهاده، وهذا ما جاء في الكلمة التي ألقاها أحَدُ الكبار، على مسامع الحاضرين، قبل افتتاح ليلة السّمر هذه، التي انتهت وقد قاربت أشعّة الشَّمس أنْ تلامسَ تضاريسَ هذه [كذا] العالم من اليوم الموالي."(وطن بيع..ص,47) 

  ولن يقف الكاتب عند  هذا التّقديم الدّقيق، بل إنّه يعود ليوسّع قائمة الحاضرين ويُشيرَ إلى الغايات من مثل هذه الجلسات التي يَلتقي فيها الكثيرُ من المَعارف القدامى، فتربَط علاقاتٌ وتُتبادَل بطاقاتُ الزِّيارَة...والهدف طبعا هو التقرّب من الكبار، والحرص على التمَلُّقِ من أجل منصب أو امتياز آخر، وعَرْض خدمات، أو فرْضها وهكذا يتحوَّل المُتمَتِّع بخدمتهم بمثابة خادم لهم، وتطول الفقرة بطول غايات الاجتماع من تنصيب "الزّعيم الجديد" (وطن بيع ..ص.47)   

2-بحث في علاقات الشّخصِيّات ما بين الانتفاع المَادّي ودلاَلات المصير 

  ليس هناك أي رابط أخلاقي قويّ يَشُدّ شخصيّات الرّواية بعضها إلى البعض، فهي شخصيّات مُفكّكة تسيِّرُها المصلحة الشّخصيّة، مَصلحة مادّية لا غير..التقطها الكاتب الصّحفي من هنا وهناك مُستعملا عدسة مُتنقلة تنقُّلا حِرَفيّا دَقيقا، ولكنَّها قد تلتقي في الدّال من حيث أنّها تحمل اسما، أو صفة مُلخِّصَة لدوْرها، ثمّ هي شَخْصيّات تلتقي بقوّة  في المَدلول، ألا تبْدو للمُتلقّي أنّها تكوّن كُلاّ حول "مجموع ما يقال عنها بواسطة جُمَلٍ مُتفرّقة في النَّصّ، أو بواسطة تصريحاتها، وأقوالها، وسُلوكها...وإنّ صورتها لا تكتمل إلاّ عندما يكون النّص الحكائي قد بلغ نهايته، ولم يعد هناك شيء يُقال في المَوضوع"¹، فهل صحيح أنّنا ننْهي الرّواية بأقوال مُسيّريها وأفعالهم؟ 

  جاءت شخصيّات الرّواية فاعلة مُتحرّكة تخبّئ وراء حضورها علاقاتٍ خطيرةً وأسرارا ما إن يوجّه لها الصُّحفي عدسته حتى تتداعى وتنكشف فنقرأ بسهولة ماضيها وحاضرها مهْما كان دورُها، رئيسيّا، أم ثانويّا، شخصيّات مُسطّحة، أم ضعِيفة. فهي تحمل وراءها خليطا من العلاقات، وتُكوّن  بالتالي قصّة تتنامَى، وتتفاعَلُ مع البناء الفَنّي الذي يحرص الكاتب على إنشائه وتطريزه بعنصر المُفاجأة، أوتقنية الاسترجاع والاستباق رغم ضعف التفنّن فيهما والتّأكيد عليهما ضرورة للبنَاء القَصَصِي.  

                                                                                                              ---------------------------------------  

¹ Roland Bourneuf, Réal Ouellet, l'univers du roman, PUF 1981, p.181.

 

  ولقد عمّقت الرّواية مثل هذه النّمَاذج لشخصيّات تهْتم بمَظهر الانجِذاب، وهو مُجرّد صِفة مظهريّة فالجمال عند المرأة  في بعض الحالات يوظّف في فخاخٍ جدُّ وسخة منها إسقاط  شخصيّة  ما. ذلك ما جرى لـ"ماهر" عندما اعترضت سبيله زميلة صحفيّة  فأوقعته  في شباكِها  وانتهىت  الرّحْلة بأنْ قادها إلى فراشه...وكان ما كان من سقوطه في الجبِّ، "أوصلها إلى أمام بيتها، غير أنّ نظراتهما في هذه الليلة أخذت منحى آخر/ وكانت تحمل الكثير من التمنّي، الذي ترجم في لحظات سكوت بينهما، وكلاهما يأكل ملامح الآخر ببطء..وفي هدوء هذا الوقت المُتأخّر من الليْل، فقد كان يفكّر في حملها معه إلى الغرفة..من أجل ليلة عشْق لا تنتهي إلاّ على خيوط الفجر، وهي ترتسم على هدوء نَسماتِ الصَّباح..(وطن بيع..ص.47)  

  تضمّ مُدوّنة البَحث إذن شخصيّاتٍ لا تخرج عن دائرة  مَرجعيّة الشَّخصيّات الانتهازيّة، فنجح الرّوائي في توظيفها بأن خَصّها بمشاهدَ تُصوِّر ما تَميّزت به من نِفاق وأنَانيّة، تضرّ بالآخر، وتكشف ما يُعتبر من المَسْكوت عنه،  فينجح بالإحاطة به، والقضاء عليه.(وطن بيع...ص. 44-46 -47...) 

  وهكذا لعبت المرأة: شخصِيّة ذات مرجعيّة اجتماعيّة، تنتمي إلى عالم الصَّحافة وتتميَّز بجمال لافت، عندما لعبت دورا هامّا من حيث الإغراءُ، والانتقامُ من الرّجل السّفِيه. 

  فلِلصّحافة "مِهنة المتاعب" كما يسمّونها عالمُها المُخصَّصُ بها، والمُتعلِّق  بقضايا كبرى الفساد، وقد تكشف في نفس الوقت أنّ لهذا الأُخطبوط  ثنايا مُحمّلةً بالغدر والتملّق، ونصبِ الفخاخ. 

  لن تخرج هذه الأفعال عمّا يُسمى بـ"خيانة الوطن"، وهي خِيانَة مَوْصُوفة قصد نشر الفوْضى، والحثِّ على التَّأْسِيس للأعْمال المُتطرّفة ضدَّ الدّولة، وسِيًادتهَا، وقد تصل عند البعض إلى أعمال توصف بالخيانة العظمى. الفساد في حقِّ الوطن خيانةٌ عظمى، والقتل دليلٌ على انتشار الفَوضى والحِقد، وفشل بعض الزّعماء، "القديم منهم، والجديد" في التشريع لعمَلية شبيهة بالطعن في الظّهر، ومثل هذه السّلوكِيّات الدّاخلية والتي تمَسّ بحرمة الوطن تسمّى تمَرّدا، وهي جريمة أيضا. 

  انتهى المصيرُ بــ"ماهر" إلى السُّقوط في فخِّ الصحفيّة، فتمّ اعتقاله، واضْطرّ إلى البوْح بسرّ "الأصلع"،" الذي بينما هو يتحدّث، حتّى سمع أحدهم يدْفع الباب الذي كان مفتوحا، فالتفت، فإذا بــ"ماهر"الصّحفي يقف عند الباب، والدّموع تملأ عينيه..توجّه "الأصلع" إليه، وهو مُندهش، واختلط إحساسُ الفرحة بالدّهشة، سقط إثرها الصُّحفي على ركبتيه ثمّ رفع عينيه إلى "الأصلع": 

  -أنا آسف. ودخل في نوبة بكاء حادّة" 

فهم "الأصلع"رسالة "ماهر"، وتراجع إلى الخلف، ثمّ توجّه إلى النّافذة، بعد سمَاعه جلبَة في الشّارع، فكان عليه التّوجّه إلى المَخرج السرّي بسرعة..."(وطن بيع..ص.59). تلك كانت نهايَة المُفسدين في الوطن، أشار إليها الكاتب إشارة لا فتة لنستنتج أنَّهَا نهاية مُدمّرة، وأنّ المصيرَ سوف يكون الإطلالة على الهاويَة المُفزعة لمَن اختار الفسادَ طريقا والرّبحَ الحرامَ غايةً. 

3-الشّخصيّات النّماذِجُ ومَفهومُ الوَطنِ 

  عَنينَا بمُركّب العطف: "الشَّخصيّات النَّماذِج ومَفهُوم الوطن" تلك المَعاني التي تعمَّق الرّاوي فيها عندما  فضح الدّوْر المُسْندَ إلى هذه الشّخصيّات المَوْصوفة بالفسَاد فعرّى أعمَالها، وكَشف أسْرَارها، وغَاصَ عَميقا فيمَا تُخطّط له، وما ترْمِي إلى تحْقيقه عن طريق الفساد والخيانَة والنِّفاق، والإيقاع بالآخر.. 

  ذلك ما كانت تَقومُ هذه الشَّخصيّاتُ النَّمَاذجُ التي تَخْتَفِي بسَواد ظُلمة اللّيلِ كي تُخطط وتدبّر وتُنجِز مَشاريعَها، وكي تُحيي سَهَرَاتِهَا المَاجِنة في جُنح الظلام إلى وقت مُتأخّر من اللّيل، فكانت تُبدِع إبْداعا في إتيَان المَعْصِيَة، والتَّفنّن في مُعَاقرة المُوبِقَات نبيذًا ولقاءات في تعاطي الجنس، والاختلاء ببائعات الهَوَى عن رغبة، وأحيانا يَكون بعضُهم قد فَقدَ الشُّعور بهذه المُتْعَة وما يقوم به  يكون لمُجرّد قضاء الوقت، وهو أقبَح أنوَاع الفسَاد وأخْطرِها، وهي عادة جرى تداوُلُها بين زَعِيمٍ وآخر، فما جاء على لسان "الزَّعيمِ الجَديد" من تَوبِيخ وجَلب الانتباه إلى ضرورة الإقلاع عن تصفية الحسابات، لكنَّ مُعَاقرة الفسَاد تَظلّ عادَة راسِخَة في سُلوكهم. 

  في هذا الإطار الهَشِّ جدًّا، والمُتعَفّن جِدّا  تُطِلّ علينا مَسألة الوَطن، فيُطرحُ سؤال عَميقٌ جدا وخطيرٌ جدًّا، مُمَثلا في حُبّ الوطن، وخِدمَة الوطن، والمُحافظة على دعائمه، وما كان للسّؤال أن يُطرح لو لم يُبْرزه المُؤَلّف عنوانا للرّواية: "وطن بيع بقارورة نبيذ"، ونقابل هذا العنوانَ اللاّفت بسُؤال مُحيّر لِمَ هذا الطرْحُ؟ وما العَلاَقَة بين أحداث الرّواية والوَطن؟ وما مَفهوم الوطن عَامّة، وفي فلسفة شَخصيَّات الرّوايَة خاصّة؟ 

  جاء في لسان العرب "معجم المعاني"، و"القاموس المُحيط " أنّ كلمة وطن تعني "مكان إقامة الإنسان ومَقرّه، وإليه انتماؤه، وُلِدَ به أمْ لم يُولَدْ. لا شيءَ يَعْلُو على المَصْلَحة الوَطنية..." 

    "وطني لو شغلت بالخلْد عنه *** نازَعتني إليْه في الخُلد نفسِي" 

  ولقد قال الغزالي يوْما: "والبشر يأْلَفون أرْضَهم على ما بِها، ولو كانَت قَفْرا مُسْتوْحَشًا، وحُبّ الوطن غريزة مُتأصِّلة في النُّفُوس، تجْعل الإنسَان يَسْتريحُ إلى البَقَاء فيه،ويَحنّ إليه إذا غابَ عنْه، ويُدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انْتُقِصَ".(موقع الأنترنيت، كلمة الوطن). 

  وفي هذا الإطار أراد الكاتب الصّحفي "صالح عزّوز" أن يَضع مشروعَه الإبدَاعِي فيُطلع القرّاء على ما جاء فيه كيْ يُشرّكهم ما رآه من سُلوكيّاتٍ تمسُّ بحُبّ الوطن، وأمْنِه وتطوُّرِهِ. 

  يرتبط في الرّواية ذكر الوَطن عنوانا، بقضيّة لافتة وخطيرة يشْمئِزّ المُتلقي من تتبّع مشاهدها المُزْرِيَة، ألا وهي الفساد بثلاثيّته العَرْجَاء: تعاطي شخصيات الدّولة للفساد نبيذا وجنسا ومبالغة في غِياب الضمير. 

  تتبلْوَر هذه المعاني منذ بداية النَّصِّ الرّوائي عندما نقف على حدث مُريع يَتعلّقُ بِتَصفِيَةٍ جسَديّةٍ مأتاها تهوُّرٌ، ومُبالغة في عدم احترام القانون، فأن تُعْدِمَ عشرين فردا بطريقة بشعة، هذا دليل على العبث بأسس الدّولة، إذن لم يكن من الزّعيم إطارا مسْؤولا في الحصن إلاّ أن يُخيّر التكتّم على الجريمة الفضيحة، إلا أنّ وقوع حادثة ثانية جعلت الصّحافةَ تنتفض،وتسعى جاهدة للكشف عن الفاعل. 

  وتكفّل الصّحفي "ماهر" بنشر خبر الحادثة الثّانية باّتفاق مع "الأصلع" الذي أعلن عن قبوله له قائلا:"لقد أصبحت من الجماعة، وعضوا من الأشخاص الذين يَتَصيّدون الذّباب" وشجّعه على نشر مَزيد من الفَضائح على صفحات التّواصُل الاجتماعي للتَّضييق على جماعة "الحِصن"، والتقاط صور تفضَح أفعالهم المُشينَة. 

  تعتبر هذه الشَّخصيّات من مُتعاطي السَياسَة بحثا عن فرص توصِلهُم إلى مَناصب راقية وخدمات خاصة تجلب النَّفع والانتفاعَ. لقد ماتت ضمائرُ مثل هؤلاء، وضَعُفت نفوسُهم وصاروا عبيدا للرِّبح والثَّرَاء وحبّ النفس والجشَع والطَّمعِ وحبِّ اعتلاء كرسي الحكم، والجاه والسّلطة، كلّفهُم ذلك ما كلّفهم. 

  يُظهرون عَكس ما يُبطِنون، فلقد اتصفت جماعة "الحصن من الزّعماء"، وهما اثنان (الزّعيم القديم، والزّعيم الجديد) بالمبالغة في الفسَاد بجميع أنواعه، فالزَّعامَة في قاموسهم حَصانَة من المُحَاسبَة، وطريق مُعبّدة للْوُصول إلى أهدافهم، يَتميَّزون بسمات العنف وقمع الحُرِّيات، والعبث بكرَامة الإنسَان، قادَهم ظَلالُهم إلى التستُّر على القتل الجمَاعي.. 

  أين هؤلاء من حبّ الوطن والغيرة عليه والاستماتة في خدمته ليعانق الأعْلى، ويتْبَع خطى الدّول المتقدّمة؟ وليواصل الكاتب ما خطّه في سبيل وطنه وإن عنى به أوطانا أخرى تعاني من الدّاء نفسه. 

 والملاحظ أنّ الرّواية موضوع هذا البحث قد ارتكزت على مَقاطِعَ وصفيّة هامّة حيث أنّ الوَاصِفَ يقوم كلّما احتاج إلى ذلك بعمليّة ترسيخ (Ancrage)، فــ"يستهلّ المقطع الوصفي بذكر مَرجَعِه أي بتسميَة مَوْضُوعِه"، ومثالا على ذلك ما جاء في الرّواية من تركيز على بعض المشاهد التي تتعلّق بالفضاء، وهو فضاء خاص جدا في هذه الرّواية، يبدو مُغلقا يَضيق بأصْحَابه فلا يتنقّلون داخله إلاّ ببطء، إمَّا وهم يصعدون الدّرج، أو وَهُمْ يجلسون في قاعة الاجتماعات، أو في غرف النّوم أين يقضون أوقاتِهم الحميميّةَ مع بائعات الهوى.  

  يُوظفُ الصّحفي في روايته موضوع بحثنا الوصف مُؤكّدا على الجزئيات، وعلى التّلاعب بكشف المسْكوت عنه. ومجابهة التستّر والانطواء على النّفس المُحَاطَانِ بصمت ثقيل.  

  وفي موطن آخر يبرز ثقل الصَّمت كبيرا وعميقا وخطيرا أيضا، وذلك عندما نُطالعُ استعمالا للحَواسِّ استعمالا مَفضُوحًا، "حلّ الظلام، وبدأت السيّارات السّوْداء تصلُ إلى ساحة "الحصن"، يركنها ساقتُها بطريقة سريعة ومُنظّمة، كأنّهَا لعبة بين أيدِيهم، واصطفّت السيّاراتُ جنب (كذا) إلى جنبٍ، ونزل منها أصحاب الزّيِّ الأسْود، دون ربْطة عنق، ظهرت هذه المرّة أعينهم، فلا حاجة لهم بالنَّظّارات في هذا الوقت، وإن كانت النّظّارات التي يَسْتعمِلونهَا، ليست بغرض التّخفّي من الشَّمس، لكن للتَّخفّي من الأعين التي تراقبهم حين ينزلون بهذا النِّظام والترتيب، والأزياء السَّوداء التي خيطت على مَقاس كلّ واحد منهم..." استقرّ الأمْر بالجماعة إلى طاولة الاجتماعات، ..."عمّ السّكون داخل القاعة، فالزَّعيم صامت، ولا أحَدَ يُمْكن أن يَتحدّث قبله..."(نص الرّواية،ص.6) 

 استعان الواصف في هذا المَقطع بـاللّون والصّوت، فالسيّارات سوداء، والزّيّ أسود، ثم ذيّل وصفه بحاسّة الأذن المُنبثق عنها الصمت المُطبَق. إذن يتَعلّق "الموضوع العنوان" في المقطع المُشار إليه إلى لون وليس إلى حركة، فاللّون الأسود يُثبته الرّاوي بواسطة العين التي ظهرت مَكشوفة في الأوّل دون ارتداء نظّارة لأنّ الوَضع لا يَسْتدْعِي التَّخفّي. ولكنّهم يضعُونها في حالات أخرى خَوفا من المُراقبين. فالنظّارة إذن أداة تعين على طمس صورة المَوصوف بغاية التخفّي. 

وهكذا يكون اللّون الأسود مُهيّئا للتّْعبير عن الظّلمة، وعن أبعَادها مُمثّلا في ثنائيّة التخفّي والبُروزِ، وما صاحبَهُما من نوايا وغايات.وملاءمَتُها للوضع الذي يستدعي التَّوارِي عن الأنظار. 

ومن الشخصيّات النّماذج نلتقي بالمرأة صُحفيّة مُتعلّمة وذكيَّة، ولكن نظرا لفساد الوضع وتعفّنه فإنّها تقوم بأعمال تشبه أعْمَال بائعات الهَوى في الرِّواية اللّواتي يعرضن أنفسهُنَّ على شخصيّات الحصن الغارقين في الفساد، إلى أبعد الحدود، فسَادٍ جرّهم إلى القتل بالجملة للانتقام، أو إخفاء جريمة من الجرائم. 

وتبدو المرأة في مدوّنة البحث مصدرا باعثا على الغواية والفتنة سلاحان اجتمعا لدى الصحفيّة، امرأة قبل أن تكون إعلاميّة ، وأضف إليهما عنصر الذّكاء فاستولت بامتلاك هذه الخصائص على أحَاسيس "ماهر" وأوقعته في وقت وجيز في حبالها، فأخذت منه كلّ شيء.  ثمّ فضحته، والتقطت له صورا تبتزّه بها متى أرادت ذلك. لقد وقع الصُّحفي "ماهر" في مصيدة الأنثى، ألم يقولوا بأنّ الأنثى أكبر مَصيدة للذّكر. سيّدنا آدم أغوته فلعنه اللّه وطرده من الجنّة. ولو لا تلك المرأة الجهنّميّة لمكثنا هناك ننعم بالنّعيم ونسرحُ في الفردوس. "¹ 

                                                                                                          --------------------------------------- 

¹ إبراهيم الكوني، التبر، ديار الرّيس للكتب والنشر، 1990، ص.24.

 

  كما يتساءل البعض الآخر بحرقة في نصوص أخرى"هل الأنثى بلوى إلى هذا الحدّ؟ "الجاذبيّة. الجاذبيّة. آه من جاذبيّة الأنثى. إنّها ذلك الجانبُ الخَفِيّ في المرأة. إنّها واضحة وبسيطة مثل الصّحراء، ولكن ليس ثمّة شيء يفُوقها غموضا وخفاء.¹ 

ويتعمّق المُؤلّف في استبطان نفسيّة المرأة  مُمثلة في شخْص صحفيّة جاءت لتنتقم، ممّا أوقع "ماهر" في صدمة كبيرة. "بقي مُنكمشا، ولم يُصدّق أنّ فتَاتا تخَاف أن تدوسَها السيّاراتُ في الطّريق، مثل فتاة صغيرة، وتصيحُ حين تقتربُ منها، تكون أفْعًى، تزْرَعُ السمّ في كلّ من تلقاه أمامها، حقدا وغلاّ وانتقاما من سيرتها كصحفيّة.. وفي هذه اللّحظة ظهرت صور ليلته معها.."(وطن بيع..ص. 57)، أوقعت "جاذبيّة" المرأة الصُّحفيّة "ماهر" في فخّها، فجلبته إلى ليلة مَاجِنة، لتفضحه وتبتزّه لاحقا، "لولا أنّني كنت في مُهمّة معك لتركتك وانصرفت.." (وطن بيع، ص. 57) . إنّها جاذبيّة الأنثى وإنّه عبث من الصّحفي اجتمعا ليوقِعَا به ويتركاه أسيرا في فخّ الصّحفية. ذلك ما تُرَدّدُه  بعض الشّخْصِيّات في مواطن أخرى، "الجاذبيّة، هي الجمال الخَفِيّ الذي خُلِق كَيْ يَصرع أمثاله من الرّجال." ² 

تتمثّل الفكرةُ المُتحاوَرُ حولها في هذه النّصوص في أنّ المرأة مصدر غواية، وأنّ الرّجل لا يصْمُد أمام جاذبيّتها، بل يقَوِّي فيه حضورُها الرِّغبة الجامحَة، والغِواية تعني الجاذبيّة، حيث يَعجز المرْء عن أن يتحكّم في نفسه فيكبح جمَاح شَهْوته، ذلك ما تُحْدثُه بائعاتُ الهَوَى في تلك النَّماذجِ من شخصيّات الرّواية، أضف إلى ذلك النَّبيذ الذي يُعمّق الأجواء بالغواية والإغراء، فيَتيهُ الجماعَة ويسْهَرون ليلا ولا يَنامون إلاَّ مع مُنتصف النّهار، إنّهم يَنقادون إلى التّيه والضّياع.  

ويجوز القولُ إذن إنّ شخصيّات هذه الرّواية تعاني من"كثافة سيكولوجيّة"³  

                                                                                                             ---------------------------------------   

¹ المرجع نفسه، ص.44.
² التّبر، ص.69.
³ حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، حيث يقول في هذا الإطار، هناك شخصيات في الرواية تكون ذات "محتوى سيكولوجي خصب ومعقّد معا، فهي تحبل بالتوترات والإنفعالات النفسية التي تغذّيها دوافع داخلية نلمس أثرها فيما تمارسه من سلوك وما تقوم به من أفعال"، ص 302. انظر، زهرة سعدلاوي حكولي، أساطير الصحراء، ونداء الحرية في الكتابة الروائية عند ابراهيم الكوني، مركز النشر الجامعي، 2012، ص 321.

 

  وهي شخصيّات اهتمّ بها كثير من النّقاد واختلف البعض فيما تمثّله من تمَوُّجات في النّفسيّة والمزاج.¹ ذلك أنّه "ليست كلّ شخصية روائيّة تحمل عمقا سيكولوجيّا يُمكن سبره وإعادة تشكيله أو الوقوف على تفاصيله، كما أنّه لا يوجد مقاس سيكولوجي واحد ينتظم جميع الشخصيّات"².نعتبر هذه النماذج "ذات محتوى سيكولوجيّ خصب ومُعقّد معا، فهي تحبل بالتوتّرات والانفعالات النفسيّة التي تغذّيها دوافعُ داخليّة نلمس أثرها فيما تمارسه من سلوك وما تقوم به من أفعال"³

  إنّها نماذج من شخصيّات سياسيّة طغى عليها حبّ الأنا والفساد، وسيطرة  الرّغبة في القيام بالأعمال المفلسة.الأنا ترغب في الانتقام من نحن ومن "الآخر" اختلطت الرّؤى، وتشابكت المصالح  إلى حدٍّ معه بُتر التّواصل مع الذّات الجماعيّة، ممثلة في مُصلحة الوطن، ويبقى حبُّ الوطن، قيمةً مَفقودة حين انتصبت الجَمَاعة عَدُوًّا يُقْصِي الفريقَ العِدائي، ويَتَّهمُه بالخيانة، وينبذ البعض الآخر، وتتداخل الأمور في وسط يُخيّم عليه ممارسة الدّعارة، وشرب الخمرة بلا حساب، والجنوح إلى الغياب عن الوعي. 

  تمثّل شخصيّة "الزعيم" بمُفرَده قصّة تتنامى مع الأحداث الكبرى. يبدأ بها المُفتتح معلنا عن نهايتها، ثم وعبر الاسترجاع يُعرّفنا الرّاوي بمُختلف جوانبها المُتمثلّة خاصّة في تعاطيه حياة مليئة بالفساد والتّجاوزات. 

   فكثيرا من الشّخصيّات النّماذج تحمل مَاضيا دفينا وتضمِرحقدا وشرّا كبيرين لبعضهم البعض،وبعدها ينتظرون الفرصة السّانحة لينقضّوا على فريستهم انقضاضا،"الكلّ يعرف طريقة العصابة، من أجل تشتيت الرّأي العامّ، يقومون دائما بمثل هذه الأمور ، وهم يدركون أنّ "أهل الحصن" يعرفون  هذه الطرق الخبيثة..."(وطن بيع..ص 43) 

 - ويبدو أن مصيرا فاشلا سوف تختتم به حياتهم، بسبب الإغراق في شرب الخمرة وتعاطي الجنس، وفقدان التّوازن الذي تتمتّع به كلّ شخصيّة سَويّة. ألم يقل "الأصلع" مستبقا الطريقة التي سوف تنتهي بها حياة الزّعيم القديم الذي تحدّث عنه قائلا :"أذكر جيّدا، أنني التقيت به في اجتماع خارج الحصن، قلت له في دعابة، إن لم تقتلك بائعة هوى، سوف يقتلك النبيذ الرّخيص."( وطن بيع، ص.44)، هذا مصير كلّ من يُدمن على تعاطي المُوبقات، ولا يشبع من مُمارسة الفساد.. 

  فمعاقرة الخمرة أضف إلى ذلك تعاطي الجنس المفضوح صور تبعث على التقزّز، والاشمِئزاز، وتجعل صاحبها يَخرُج من مرحلة الإنسانيّة إلى مرحلة الحَيوانيّة المُوغِلة في الإدمان على تعاطي الفساد، ولعلّه يَصعُب لذلك أن يُصدّق قارئ هذه الرّواية أنّ شخصيّاتها تعيش علاقات سليمة، ومُتوازنة مع بعضهم البعض، بل ما يُمكن الإقْرَارُ به أنّ ما يسمّى  بـ"الكثافة السيكولوجية"، خصيصة جعلت هذه الشّخصيات تعيش علاقاتٍ مُتوتّرَةً، الكلّ يشكُّ في الكلّ، وذلك بسبب حبّ الترقِّي والصّعود إلى مَنصب عالٍ، فهذه الشَّخصيّات النّماذج التي وقفنا عندها مُصابة شاءت أم أبت بمرض نفسيّ جوهره المُبالغة في حبّ النفس وتحقيق الأهداف الشَّخصيّة، حتّى ولو كان ذلك على حساب مَصلحَةِ الوطن. 

  ذلك أنّ المؤلّف اعتنى عناية كبيرة بالعلاقات التي تربط هذه الشّخصيّات بعضها إلى بعض، فهي علاقات نادرا ما يسودُها الائتلاف، بل الاختلاف، والعدائيّة هي الطابع المسيطر عليها. 

إذن تعمل رواية الصّحفي بأحداثها على التركيز على الجسد، ففي هذا الكتاب يُلامِس الوصف أماكن مَسْكوتا عنها، فهي بالمعنى السّيميائي دلالة على النّذالَة، والانْحطاط الأخْلاقي لِمَسّ الأماكن المَسْكوت عنها، تعاطي الجنس بطرق تبعث على الاشمئزاز، فلقد كان بإمكان الكاتب أن لا يفعل ذلك وإنْ فعَله، فبطريقة تجانب الصّواب في عدم التعمّق في الحقيقة الصارخة، ولكنّ تفاقم الأوضاع جعله يُصوّر ليفضَح الوَضع طمعا في العبْرَة والتوْبة. 

يذكر مؤلّف الرّواية أنّ أغلب من قرؤوا العنوان "وطن بيع بقارورة نبيذ"، علّقوا عليه على "أنّه عنوان غريب، أو مُلفت للانتباه، وحتى من اندهش منه (كذا)، فكيف يباع الوطن بقارورة نبيذ فمَهما حصل  سوف يكون ثمن الوَطن أغلى من القارورة، وكان واجبا عليَّ أن أوضِّح هدف هذا العنوان وسبب اختياره. كان في تصوّري أنَّ الوطن حينما بِيع لم يُبَعْ لمَن هُم أقْرَبُ إلينا مَوَدّة أو تجْمَعُنا قرابَة أو تشابُهٌ في الدِّين والعقيدة، لكن بيع لِمن يُخالفُونَنا في الرَّأي والعيش والتقاليد والعرف والثقافة، لهذا احتفلوا بهذه البَيْعة السّمينة إن صحّ القوْل في حانة، وهم يغازلون قارورة نبيذ، فلم أكن أقصد أنَّ ثَمَنَ الوَطَنِ هو ثمَنُ قارُورَة نبيذٍ، لكن (أقصد) مَكان عقد الصفقة و البيعة". 

يجوز القول إذن إنّ الوطن بيع رخيصٌ جدا بتعاطي مثل هذه المُهاترات. وعدم الحرص على صيانة مَصلحته، ونحْت اسمه بأفضل المَعاني لا بأرْخَصِها. 

يسيطر على نماذج من هذه المشاهد العراء، ليس برمزيَّة الكشف عن الحقيقة، بل بغاية إمعان في تضخيم الجرْم، وتسْفيهِ الفِعل...الجسد في حضرة هذه المَشاهد العاريَة الغايَةُ منه الابتذال، وتغييب القيمة، فلا قيمة في زَمن الأصلع، ولا أخْلاق في زَمَن المُدْمن على شرب النَّبيذ، وتعاطي الجنس بأرْخَص الطُّرق، وأسوأ المشاهد، لا شهوة ولا إحساس لأنَّ صدق المُعاشرة مَيِّت، ومَفْقودٌ. العمليّة حيوانية أكثر منها إنسانيّة، فلا قُدُسيّة للجَسَد ولا حرْمَة له، والجريمَة مُشتركة بين الفاعل وبائِعات الهَوَى، ولعلّ ذلك وحْده يكون مُبرِّرا لكتابة رواية "وطن بيع بقارورة نبيذ". 

                                                                                                               --------------------------------------- 

¹ تحدّث حسن بحراوي عن الفرق بين الشخصية المعقّدة والشخصية المسطّحة، وذلك نقلا عن "فورستر"، ومن قبله "هنري جيمس"، إذ يخضع كل شيء في السرد لنفسية الشخصية وأمزجتها. هذا رأي كان قد أثار اعتراض العديد ممن ذكرهم صاحب كتاب بنية الشكل الروائي، أمثال:

- "إدوين موير" في بناء الرواية ص.139.

- "تودوروف وديكرو" في القاموس الموسوعي، ص.189.

- "بورنوف وويلي" في عالم الرواية، ص.170-171.

² بنية الشكل الروائي، م.س، ص.302.

³ المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

 

4- الإستنتاجات والخاتمة 

تتمثل استنتاجَاتُنا في هذا البحث فيما يلي: 

-إنّ شَخصيّات الرِّواية وإن كانت من حيث الأسْماء قليلة فهي تَتنَامى في عددها وتتطور فيما يسنده إليها الرّاوي من ألقاب وصفاتٍ في مرحلة أولى، وفيما تأتيه من أقوالَ وأفعالَ في مرحلة ثانيةٍ. فهي شخصيّات  مُتحوّلة، ومُتغيّرةٌ تطرح ترَاكُمَاتٍ من الأفكار، والأحْداثِ، مُرتبطةٌ الواحدةُ بالأخرى، وتتحرّك في شَبكَةٍ من الإيحَاءات تربط  بين مَاضيهَا وحَاضِرِها، وتدفع الأحداثَ إلى الأمام إن لم نقل إلى نِهَاياتٍ صَادِمَةٍ، لها علاقة وثيقة بالوَطن أرْضًا، مَسارًا ومَصيرًا. 

 -كتبت الرِّواية بأسلوبٍ صُحُفِيٍّ أكثر منه أسلوب سرْدِي  يُمْلِي على الكاتب اختيارا معيّنا في الإبداع الرّوائي، أصر فيه صاحبه على أن يهتم بالحدث والصّورة أكثر من الاهتمام بشعريّة اللغة والأسلوب وجماليّة مُكوّنات الخِطاب السَّردي، وهذا في حدّ ذاته عنصر جمالي يَشدّ القارئَ ويبعث على التَّساؤُل. 

- تتميّز شّخصيات الرّواية بسِماتٍ مُعيّنة، ما ظَهَر منها وما بطُن، لِذلِك أكّد الكَاتبُ على الخصائص الغالبة المُتعلّقة بالفساد الأخْلاقي، المُتكون من تعاطي الموبقات مثل الخمْرة، والعنصر النسائي مُمَثلا في الجاذبيّة المُوغلة في الاستهتار. 

- أكَّد الكاتب على عنصر العلاقات الخاصّة جدّا والتي تربط  الحضورَ منْ مُوَظفي الدَّوْلة الذين لن يَتأخَّروا إن تظاهروا بالبقاء على العهد في أن يَجرّوا الوطن إلى مصير مجهول قد تكون الفوضى بدايته والموت نهاية الكثيرين منه، لذلك لا يَستغرب المُتلقِّي عندما يتلقّى خبرا يفيد قتلاً جماعيًّا في ليلة واحدة سبَبُه ما اكتشفه لا حقا من فوضى، ومُوبِقات وغيابٍ للفكر المُدبِّر الرَّصِين. 

-طغت المصلحة الشخصيّة على المصلحة العامّة فضاع الوطن ودَفَعَ به الجماعة إلى طريق مسدود، لأنَّ الوَطن في مثل هذه الأحْوال لنْ يكُون سوى شَهيدًا يشترك في ضياعه ضياعُ زُعَمَائه، وغياب مَسْؤُوليه عزْمًا وحزْمَا بسبب شرب الخمْرة وتعاطي الجنس الرّخِيصِ. 

-أراد الكاتب بروايته هذه أن يُحَاكم "أهل الحصن" ليقول لهم إيّاكم ووبَاءً قادِمًا في مُستقبل الأيّام فلن يرْحمكم ولن يَعفوَ عنكم. 

- أراد الكاتب أن يُمرّر رسائل أخرى تتعلّق بالصِّدْق في خدمة الوطن، واليقظة من أجل الارتقاء به إلى الاقتناع بأن الوطن حَمّال سبب تطوره، كما أنَّه بسبب صراعاته الدَّاخليّة قد تتفشَّى فيه جُرْثومَة الإغْوَاء، وتطغى فيه لغة المصلحة الخاصّة على لغة المَعْنى، وحبّ الوَطنِ. 

نختم بحثنا بالتَّنوِيهِ بهذا العمل القابل لأجزاء أخرى تحْكي عن التحذير بنتائج العبث بمَصلحة الوطن، لأنّ العبث يعني سُقوطَ الوطن، وسُقوطُ الوطن لن يكون سوى الخسارة المُدمّرة للجميع. فإيّاكم والإجرام في حَقِّ الوطن، لذلك اختار الكاتب أن يكون عنوانُ روايته لافتًا جدا، مُعبّرا جدا.. الفعلُ استعارةٌ أحْسَنَ الكاتبُ استعمالَها، وبَنَاؤه الفعلَ إلى المَجْهُول جعل الرّواية تنفتح على مُحاكمة لمَنْ تُخوّل له نفسه التفريط في حقّ الوطن عليه،  والعبث بأسُسِه وقِيمِه. لأنَّها آتيةٌ من أعماق التَّاريخ ورُوحِ الجَمَاعة، علّةِ الوُجود وسببِ البقَاءِ. 


- تعتبر رواية صالح عزّوز تجربةً للمرّة الأولى، كما يقول "وهي بدايَة النّقش على جدران الرّواية، فهي حكاية وطن، تشبه حكاية كلِّ واحدٍ مِمّن يقفون اليومَ في السّاحات العُمُوميّة ، يريد ترجَمَة حُبّه لهذا الوَطن على طريقته، ربَّما نَختلف في طريقة المُعالجَة لكنْ نشترك في الألَم أوِ الحُبِّ." هكذا ختم الكاتب رأيه فيما كتب لِيُحمّلنا جميعا في أيِّ وَطنٍ كُنَّا واجبَ التّعَامُلِ بِمسْؤوليّة مع الأوْطَان، جميع الأوْطان المُصابة في عمْقِها بِغُولِ الخِيَانة وخَطرِ العَبثِ اللاّمَسْؤُولِ. 

 

التعليقات

زهرة سعدلاوي كحولي
سعدت كثيرا عندما قرأت رواية الكاتب والصحفي الجزائري صالح عزوز فشدتني الطريقة التي عالج بها الفساد في أي وطن، الموضوع لافت ويمس وطنا أخبرنا الكاتب أنه بيع بقارورة نبيذ، وكان السؤال الحارق لماذا وكيف،، وما مصير الشخصيّات؟

زهرة سعدلاوي كحولي
سعدت كثيرا عندما قرأت رواية الكاتب والصحفي الجزائري صالح عزوز فشدتني الطريقة التي عالج بها الفساد في أي وطن، الموضوع لافت ويمس وطنا أخبرنا الكاتب أنه بيع بقارورة نبيذ، وكان السؤال الحارق لماذا وكيف،، وما مصير الشخصيّات؟

Belarbi mohamed
الوطن يستطيع بائعه ان يتم صفقة البيع بشيئان اولاً تجهيل العامة هذا يأدي الى التعويم فا تنتشر الا مبلات وكثير الأشياء وثاني شيء هو التفريق فرق تسد بستعمال الجهوية والعروشية وووو ...وشكراً على هذا التحليل الذي تعمقتي فيه كثيراً

إضافة تعليق جديد